Image Not Found

عاشوراء هذا العام أشد إيلاما

د علي محمد سلطان

فمع موسم عاشوراء يتوشح السور بوشاحه الأسود تعلو جدره وحيطانه في ساحاته وأزقاته ومجالسه ومآتمه وقد تبدلت مع الزمن بعض زينات المآتم إلى السواد الداكن تماشيا مع نمط الشعارات التي قد جاءت لساحاته متأخرة.
كعادتي وفي مثل هذه الأيام من كل عام أتردد على المأتمين الصغير والكبير ( تأريخمها قديم ) فأغدو أحد حلاسهما مثلي مثل باقي أبناء جيلي ومن كبار السن وجيل الأبناء فقد بقي الناس على وفائهم مترددين على أزقاته ومآتمه يحضرون مجالس ذكر أبي الشهداء وكأن المجالس قد إختصرت على محيط أسواره لما سواه.
خنقتني العبرة وأنا أدخل من بابه ( الكبير ) وقد توشح بالسواد وأزقاته ترفع اليافطات تخليدا لذكرى أبي الطف فلا أجد الأثافن لقدور (الكيرجي ) وقد غابت عن أول مدخله واختفى معها السمر والحطب الشاعل لمواقده.
وقفت متسمرا على ناصية من نواصيه عند بيت عمتي ( شيرين سلطان ) فتذكرت آخر أيام من عمرها وقد أخذت منها سني العمر مأخذها وهي تنتحب نحيب الثكلى مع مراسم ( العلمة ) والعزاء الحسيني يأخذ طريقه إلى المأتم الكبير مع ساعات الزوال.
يممت شطر ساحة بدروه وأنا أقف على عتبات بيتها فلا أجد ناعي الطف يحمل السماعة في عصر عاشوراء على بكائية ( زينب تنادي يا جد طه هذا حسين فوق ثراها) .
وقفت على ساحة الراية من أمام مسجد الرسول الأعظم ص ( المسجد الكبير ) فلم أجد شخص تقي محمد حسن ( كمندر ) وعزاء حلقة ( البوشهري ) في ظهيرة عاشوراء وقبل أن تتوسط الشمس كبد السماء فتخيلت الحسين روحي فداه وهو قد سقط على بوغاء كربلاء ومع صرخته ( هكذا ألقى الله وألقى جدي وأنا مخضب بدمي ) يرتفع صوت تقي كمندر على وقع آلة ( السمبال) من قطعتين معدنيتين وصوته الهادر ( لاشوبيه زينب روكيه بكاري بايي همارا كوهي نهي) ولهذا الرجل رحمة الله عليه تأصيل لعزاء الأربعين الذي أسسه عندنا وهو جليس العلامة رشيد ترابي العالم الديني المتفوه والفيلسوف والشاعر الذي وضع بصماته على مشاهد التاريخ الإسلامي العابر للمذاهب وكانت له من الشعبية لاتضاهيها شعبية في الوسط الإسلامي الباكستاني وقد زار عمان وحاضر في المسجد الكبير على مدى سنوات متواصلة مع مواسم شهر رمضان للأعوام
1956. 1957 . 1958
على نفقة الحاج جعفر باقر عبداللطيف.
وطالما قد مررنا على تاريخ تقي كمندر فقد ترجم المرحوم الأدعية المهمة من دعاء كميل والصباح للإمام علي كما وترجم حديث الكساء إلى اللغة الإنجليزية فقد كان ضليعا في الترجمة وكان ذات يوم أحد مدرسي المدارس الأهلية.
وإنني أحتفظ لترجماته المذكورة ونسأل الله بأن ترى الترجمات النور ويستفاد من عطائه.
بعد ذلك تعرجت على ساحة ملياني خيجاه ( أتت إلى عمان من إفريقيا ) وهي عمانية في أصلها.
وهي المراة التي أسست لأكبر مأتم نسوي في السور.
فبحثت عن جواد الحسين فلم أر لظله أثرا ففي ساحة مأتمها يتم تزيين الجواد ( تشبيها لجواد الحسين ع).
غاب عن باصرتي السيف المرصع بالذهب بكامل حمائله.
إسترجعت عنفوان طفولتي وأنا واقف أقبل جبين الجواد تبركا وتعظيما لأبي الشهداء وهو مزدان الجبين بالذهب وعلى سرجه أجمل مابرعت به النسوة من خياطة الكساء من أثواب ( البتشيريات) وقد مسك من خطامه السائس الذي بدوره ينظم المسار للمتبركين رجالا ونساء وصبية مع الرضع المحمولين على أكتف الأمهات.
إنها بانورامات عاشوراء بفلوكلورياتها وتراثها وتاريخها وهي التجليات التي عايشناها فتمازجت مع الوجدان وبقيت حية متآلفة كما تتمازج صافيات الألبان عند خض القراب.
وقبل أن أسلك دربي نحو ( الباب الصغير ) وقفت لهنيآت على حواف فسطاط المأتم الكبير حيث مراجل الهريس في زوال عاشوراء
وهنا فقد فاضت عبرتي وتخيلت كأنني أتوسط الجموع في قلب المأتم وصورة قارئ المقتل أمامي وهو يرتل فصول المقتل فصلا بعد فصل مازقا بحنجرته صمت الحوائط.
وأنا في درب عودتي مررت على المأتم الصغير علني أسمع همهمات المرثى ( مرشا) ليلة الحادي عشر من المحرم وقد لف الصمت سكيك السور .
المرثى باللغة (الكوجكية)
فلم يمرق الصوت حجب الآذان المغلقة فلا ( واقيوه ولا خيمو خالي ) وسواهما فقد كنا حلساء البيوت نتابع عاشوراء في فضائيات الدنيا الرحبة حيث صوت الحسين صادح في كل الساحات.

يوم تاسوعاء من المحرم لعام ١٤٤٢ هجري
الموافق 29/8/2020
في الصورة
الأستاذ المرحوم تقي محمد حسن كمندر
وأخرى لحفيدي طارق.